فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ الحرميان، والعربيان، والكسائي: قل انظروا بضم اللام، وقرئ: وما تغني بالتاء، وهي قراءة الجمهور وبالياء. وماذا يحتمل أن يكون استفهامًا في موضع رفع بالابتداء، والخبر في السموات. ويحتمل أن يكون الخبر ذا بمعنى الذي، وصلته في السموات.
وانظروا معلقة، فالجملة الابتدائية في موضع نصب، ويبعد أن تكون ماذا كله موصولًا بمعنى الذي، ويكون مفعولًا لقوله: {انظروا}، لأنه إن كانت بصرية تعدت بإلى، وإن كانت قلبية تعدت بفي.
وقال ابن عطية: ويحتمل أن تكون ما في قوله: {وما تغني}، مفعولة لقوله: {انظروا}، معطوفة على قوله: {ماذا} أي: تأملوا نذر غنى الآيات.
والنذر عن الكفار إذا قبلوا ذلك، كفعل قوم يونس، فإنه يرفع العذاب في الدنيا والآخرة وينجي من الهلكات.
والآية على هذا تحريض على الإيمان، وتجوز اللفظ على هذا التأويل، إنما هو في قوله: {لا يؤمنون}. انتهى.
وهذا احتمال فيه ضعف.
وفي قوله: مفعولة معطوفة على قوله ماذا، تجوز يعني أنّ الجملة الاستفهامية التي هي ماذا في السموات والأرض في موضع المفعول، لأنّ ماذا منصوب وحده بانظروا، فيكون ماذا موصولة.
وانظروا بصرية لما تقدم، والأيام هنا وقائع الله فيم، كما يقال أيام العرب لوقائعها.
وفي الاستفهام تقرير وتوعد، وحض على الإيمان، والمعنى: إذا لجوا في الكفر حل بهم العذاب، وإذا آمنوا نجوا، هذه سنة الله في الأمم الخالية.
قل فانتظروا أمر تهديد أي: انتظروا ما يحل بكم كما حل بمن قبلكم من مكذبي الرسل.
{ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)}
لما تقدم قوله: {فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم}، وكان ذلك مشعرًا بما حل بالأمم الماضية المكذبة ومضرحًا بهلاكهم في غير ما آية، أخبر تعالى عن حكاية حالهم الماضية فقال: {ثم ننجي رسلنا}، والمعنى: إن الذين خلوا أهلكناهم لما كذبوا الرسل، ثم نجينا الرسل والمؤمنين.
ولذلك قال الزمخشري: ثم ننجي معطوف على كلام محذوف يدل عليه إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم، كأنه قيل: نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا على مثل الحكايات الماضية.
والظاهر أن كذلك في موضع نصب تقديره: مثل ذلك الإنجاء الذي نجينا الرسل ومؤمنيهم، ننجي من آمن بك يا محمد، ويكون حقًا على تقدير: حق ذلك حقًا.
وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون حقًا بدلًا من المحذوف النائب عنه الكاف تقديره: إنجاء مثل ذلك حقًا.
وأجاز أن يكون كذلك، وحقًا منصوبين بننجي التي بعدهما، وأن يكون كذلك منصوبًا بننجي الأولى، وحقًا بننجي الثانية، وأجاز هو تابعًا لابن عطية أن تكون الكاف في موضع رفع، وقدره الأمر كذلك: وحقًا منصوب بما بعدها.
وقال الزمخشري مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم ونهلك المشركين، وحقًا علينا اعتراض يعني حق ذلك علينا حقًا.
قال القاضي: حقًا علينا المراد به الوجوب، لأن تخليص الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من العذاب إلى الثواب واجب، ولولاه ما حسن من الله أن يلزمهم: الأفعال الشاقة.
وإذا ثبت لهذا السبب جرى مجرى قضاء الدين للسبب المتقدّم، وأجيب بأنه حق.
بحسب الوعد والحكم لا بحسب الاستحقاق، لما ثبت أن العبد لا يستحق على خالقه شيئًا.
وقرأ الكسائي، وحفص: ننجي المؤمنين بالتخفيف مضارع أنجى، وخط المصحف ننج بغير ياء. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} أي وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ- أَيُّهَا الرَّسُولُ الْحَرِيصُ عَلَى إِيمَانِ النَّاسِ- أَنْ يُؤْمِنَ أَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا لَا يَشِذُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ لَآمَنُوا، بِأَنْ يُلْجِئَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ إِلْجَاءً، وَيُوجِرَهُ فِي قُلُوبِهِمْ إِيجَارًا، وَلَوْ شَاءَ لَخَلَقَهُمْ مُؤْمِنِينَ طَائِعِينَ كَالْمَلَائِكَةِ لَا اسْتِعْدَادَ فِي فِطْرَتِهِمْ لِغَيْرِ الْإِيمَانِ، وَفِي مَعْنَى هَذَا قَوْلُهُ تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا} (6: 107) وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} (11: 118) وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ اللهُ أَلَّا يَخْلُقَ هَذَا النَّوْعَ الْمُسَمَّى بِالْإِنْسَانِ الْمُسْتَعِدِّ بِفِطْرَتِهِ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، الَّذِي يُرَجِّحُ أَحَدَ الْأُمُورِ الْمُمْكِنَةِ الْمُسْتَطَاعَةِ لَهُ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ وَيُخَالِفُهُ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، لَفَعَلَ ذَلِكَ وَلَمَا وُجِدَ الْإِنْسَانُ فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنْ يَخْلُقَ هَذَا النَّوْعَ الْعَجِيبَ وَيَجْعَلَهُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي قِصَّةِ آدَمَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى، هَكَذَا خَلَقَ اللهُ الْإِنْسَانَ، مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} أَيْ إِنَّ هَذَا لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، وَلَا مِنْ وَظَائِفِ الرِّسَالَةِ الَّتِي بُعِثْتَ بِهَا أَنْتَ وَسَائِرُ الرُّسُلِ: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} (42: 48): {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} (50: 45) وَهَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي أَنَّ الدِّينَ لَا يَكُونُ بِالْإِكْرَاهِ أَيْ لَا يُمْكِنُ لِلْبَشَرِ وَلَا يُسْتَطَاعُ، ثُمَّ نَزَلَ عِنْدَ التَّنْفِيذِ {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (2: 256) أَيْ لَا يَجُوزُ وَلَا يَصِحُّ بِهِ، وَذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِنَا سَبَبَ نُزُولِهَا، وَهُوَ عَزْمُ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْعِ أَوْلَادٍ لَهُمْ كَانُوا تَهَوَّدُوا مِنَ الْجَلَاءِ مَعَ بَنِي النَّضِيرِ مِنَ الْحِجَازِ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يُخَيِّرُوهُمْ وَأَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ إِيمَانَ الْمُكْرَهِ بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ، لَكِنَّ نَصَارَى الْإِفْرِنْجِ وَمُقَلِّدِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الشَّرْقِ لَا يَسْتَحُونَ مِنَ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُ رَمْيُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرِهُونَ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيُخَيِّرُونَهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّيْفِ يَقُطُّ رِقَابَهُمْ، عَلَى حَدِّ الْمَثَلِ: (رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتْ).
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ} أَيْ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ وَلَا مِنْ شَأْنِهَا فِيمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ مِنَ اسْتِقْلَالِهَا فِي أَفْعَالِهَا، وَلَا مِمَّا أَعْطَاهَا اللهُ مِنَ الِاخْتِيَارِ فِيمَا هَدَاهَا مِنَ النَّجْدَيْنِ، وَمَا أَلْهَمَهَا مِنْ فُجُورِهَا وَتَقْوَاهَا الْفِطْرِيَّيْنِ، أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللهِ وَمُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي اسْتِطَاعَةِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ، فَهِيَ مُخْتَارَةٌ فِي دَائِرَةِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَلَكِنَّهَا غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ فِي اخْتِيَارِهِمْ أَتَمَّ الِاسْتِقْلَالِ، بَلْ مُقَيَّدَةٌ بِنِظَامِ السُّنَنِ وَالْأَقْدَارِ، فَالْمَنْفِيُّ هُوَ اسْتِطَاعَةُ الْخُرُوجِ عَنْ هَذَا النِّظَامِ الْعَامِّ، لَا الِاسْتِطَاعَةُ الْخَاصَّةُ الْمُوَافِقَةُ لَهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ} (3: 145) أَيْ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ الْمُوَافِقَةِ لِحِكْمَتِهِ وَسُنَّتِهِ فِي أَسْبَابِ الْمَوْتِ، فَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلْمَوْتِ شَهِيدًا أَوْ مُنْتَحِرًا بِمَا يَتَرَاءَى لَهُ مِنْ أَسْبَابِهِ، ثُمَّ لَا يَمُوتُ بِهَا لِنَقْصِهَا أَوْ لِمُعَارِضٍ مُنَافٍ فِي نِظَامِ الْقَدَرِ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمًا إِلَّا اللهُ تَعَالَى، وَمَعْنَى الْإِذْنِ فِي اللُّغَةِ الْإِعْلَامُ بِالرُّخْصَةِ فِي الْأَمْرِ أَيْ تَسْهِيلُهُ وَعَدَمُ الْمَانِعِ مِنْهُ.
{وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} هَذَا عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ دَلَالَةَ الضِّدِّ عَلَى الضِّدِّ أَوِ النَّقِيضِ عَلَى النَّقِيضِ، أَيْ وَإِذْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ بِإِذْنِهِ وَتَيْسِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ الَّتِي تَجْرِي بِقَدَرِهِ وَسُنَّتِهِ، فَهُوَ يَجْعَلُ الْإِذْنَ وَتَيْسِيرَ الْإِيمَانِ لِلَّذِينِ يَعْقِلُونَ آيَاتِهِ فِي كِتَابِهِ وَفِي خَلْقِهِ، وَيُوَازِنُونَ بَيْنَ الْأُمُورِ فَيَخْتَارُونَ خَيْرَ الْأَعْمَالِ عَلَى شَرِّهَا، وَيُرَجِّحُونَ نَفْعَهَا عَلَى ضُرِّهَا بِإِذْنِهِ وَتَيْسِيرِهِ، (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) أَيِ الْخِذْلَانَ وَالْخِزْيَ الْمُرَجِّحَ لِلْكُفْرِ وَالْفُجُورِ، (عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) وَلَا يَتَدَبَّرُونَ فَهُمْ لِأَفَنِ رَأْيِهِمْ، وَاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، يَخْتَارُونَ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْفُجُورَ عَلَى التَّقْوَى، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَفِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ، أَنَّ الرِّجْسَ لَفْظٌ يُعَبِّرُ عَنْ أَقْبَحِ الْخُبْثِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي هُوَ مَبْعَثُ الشَّرِّ وَالْإِثْمِ.
{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظَرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظَرِينَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}.
هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ إِرْشَادٌ لِلْعُقَلَاءِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ مِمَّا قَبْلَهَا أَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ، أَنْ خَلَقَهُ مُسْتَعِدًّا لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَهُ الِاخْتِيَارُ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ الْحَرِيصَ عَلَى إِيمَانِ النَّاسِ لَا يَقْدِرُ عَلَى جَعْلِهِمْ مُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ اللهَ الْقَادِرَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَجْعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْإِيمَانِ وَحْدَهُ وَلَا عَلَى الْكُفْرِ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا جَعَلَ مَدَارَ سَعَادَتِهِمْ عَلَى حُسْنِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ بِاخْتِيَارِهِمْ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَمَا الرَّسُولُ إِلَّا بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ يُبَيِّنُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ لِلْعَقْلِ الْمُسْتَنِيرِ، فَالدِّينُ مُسَاعِدٌ لِلْعَقْلِ عَلَى حُسْنِ الِاخْتِيَارِ إِذَا أَحْسَنَ النَّظَرَ وَالتَّفْكِيرَ، وَاللهُ تَعَالَى يَأْمُرُ بِهِمَا بِمِثْلِ قَوْلِهِ: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِقَوْمِكَ الَّذِينَ تَحْرِصُ عَلَى هُدَاهُمْ: انْظُرُوا بِعُيُونِ أَبْصَارِكُمْ وَبَصَائِرِكُمْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ آيَاتِ اللهِ الْبَيِّنَاتِ، وَالنِّظَامِ الدَّقِيقِ وَالْعَجِيبِ فِي شَمْسِهَا وَقَمَرِهَا، وَكَوَاكِبِهَا وَنُجُومِهَا، وَبُرُوجِهَا وَمَنَازِلِهَا، وَلَيْلِهَا وَنَهَارِهَا، وَسَحَابِهَا وَمَطَرِهَا، وَهَوَائِهَا وَمَائِهَا، وَبِحَارِهَا وَأَنْهَارِهَا، وَأَشْجَارِهَا وَثِمَارِهَا، وَأَنْوَاعِ حَيَوَانَاتِهَا الْبَرِّيَّةِ وَالْبَحْرِيَّةِ، فَفِي كُلِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُبْصِرُونَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى عِلْمِ خَالِقِهَا وَقُدْرَتِهِ، وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَوَحْدَةُ النِّظَامِ فِي جُمْلَتِهَا وَفِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا هُوَ الْآيَةُ الْكُبْرَى عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ، ثُمَّ انْظُرُوا مَاذَا فِي أَنْفُسِكُمْ مِنْهَا، كَمَا قَالَ: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (51: 20 و21) إِنَّهُ يُرِيكُمْ كُلَّ هَذِهِ الْآيَاتِ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) يَجُوزُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ النَّفْيُ وَالِاسْتِفْهَامُ، وَالنُّذُرُ فِيهَا جَمْعُ نَذِيرٍ أَوْ إِنْذَارٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ عَلَى ظُهُورِ دَلَالَتِهَا، وَالنُّذُرَ التَّشْرِيعِيَّةَ عَلَى بَلَاغَةِ حُجَّتِهَا، لَا فَائِدَةَ فِيهِمَا وَلَا غِنَى لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ عَنِ الْإِيمَانِ الَّذِي يَهْدِيهِمْ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِالْآيَاتِ، وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ أَكْمَلَ الدَّلَالَةِ مِنْ وَحْدَانِيَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ، وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَالِاعْتِبَارِ بِسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، فَفَائِدَةُ الْإِيمَانِ الْأُولَى تَوْجِيهُ عَقْلِ الْإِنْسَانِ إِلَى حُسْنِ الْقَصْدِ فِي نَظَرِهِ فِي الْآيَاتِ، وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا فِيمَا يُزَكِّي نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَيَرْفَعُهَا عَنْ أَرْجَاسِ الْأُمُورِ وَسَفْسَافِهَا، وَبِهَذَا تَفْهَمُ مَعْنَى جَعْلِ الرِّجْسِ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالَّذِينِ لَا يَعْقِلُونَ الْمَجَانِينَ الْفَاقِدِينَ لِغَرِيزَةِ الْعَقْلِ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الَّذِينَ لَا يَسْتَعْمِلُونَ الْعَقْلَ فِي أَفْضَلِ مَا هُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللهِ وَتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ، الَّتِي تَجْعَلُهُمْ أَهْلًا لِإِتْمَامِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وَكَرَامَتِهِ، بِالْتِزَامِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَإِيثَارِ الْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ.
{فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ مِنْ سُنَّتِنَا فِي الْخَلْقِ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الرُّسُلِ، فَهَلْ يَنْتَظِرُ هَؤُلَاءِ الْكَافِرُونَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، أَيْ وَقَائِعَهُمْ مَعَ رُسُلِهِمْ مِمَّا بَلَغَهُمْ مَبْدَؤُهُ وَغَايَتُهُ، أَيْ مَا ثَمَّ شَيْءٌ آخَرُ يُنْتَظَرُ (قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أَيْ قُلْ لَهُمْ مُنْذِرًا وَمُهَدَّدًا: إِذًا فَانْتَظِرُوا مَا سَيَكُونُ مِنْ عَاقِبَتِكُمْ إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظَرِينَ، عَلَى بَيِّنَةٍ مِمَّا وَعَدَ اللهُ وَصَدَقَ وَعْدَهُ لِلْمُرْسَلِينَ، وَإِنَّ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ سَيَكُونُونَ كَمُعَانَدِيهِمْ مِنَ الْهَالِكِينَ.
{ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} هَذَا التَّعْبِيرُ مِنْ أَعْجَبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ فِي الْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ، وَهُوَ ذِكْرُ شَيْءٍ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَمْرٍ عَامٍّ كَسُنَّةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ تُسْتَنْبَطُ مِنْ قِصَّةٍ أَوْ قِصَصٍ وَاقِعَةٍ، ثُمَّ يَأْتِي بِجُمْلَةٍ مَعْطُوفَةٍ لَا يَصِحُّ عَطْفُهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ الْجُمَلِ، فَيَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ وُجُوبُ عَطْفِهَا عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ الْعَامِّ، بِحَرْفِ الْعَطْفِ الْمُنَاسِبِ لِلْمَقَامِ، بِحَيْثُ يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ ذِكْرِهِ، وَتَقْدِيرُهُ هُنَا: تِلْكَ سُنَّتُنَا فِي رُسُلِنَا مَعَ قَوْمِهِمْ: يُبَلِّغُونَهُمُ الدَّعْوَةَ، وَيُقِيمُونَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ، وَيُنْذِرُونَهُمْ سُوءَ عَاقِبَةِ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، فَيُؤْمِنُ بَعْضٌ وَيُصِرُّ الْآخَرُونَ، فَنُهْلِكُ الْمُكَذِّبِينَ، ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِمْ (كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) أَيْ كَذَلِكَ الْإِنْجَاءُ نُنَجِّي الْمُؤْمِنِينَ مَعَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، وَنُهْلِكُ الْمُصِرِّينَ عَلَى تَكْذِيبِكَ، وَعْدًا حَقًّا عَلَيْنَا لَا نُخْلِفُهُ {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} (17: 77) وَقَدْ صَدَقَ وَعْدُهُ كَمَا قَالَ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {نُنَجِّي رُسُلَنَا} بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّنْجِيَةِ إِلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ يَعْقُوبَ بِالتَّخْفِيفِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ {نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِنْجَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ التَّشْدِيدَ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ أَوِ التَّكْرَارِ، وَهُوَ الْأَنْسَبُ فِي الْأُولَى لِكَثْرَةِ الْأَقْوَامِ. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} سبقت الإشارة في هذه السورة إلى القرون الخالية، وما كان من عاقبة تكذيبهم لرسلهم، واستخلاف من بعدهم لاختبارهم: {ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون} كما سبقت الإشارة بأن لكل أمة رسولًا فإذا جاءهم رسولهم قضي بينهم بالقسط: {ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون}.
فالآن يأخذ السياق في جولة تفصيلية لهاتين الإشارتين، فيسوق طرفًا من قصة نوح مع قومه، وطرفًا من قصة موسى مع فرعون وملئه، تتحقق فيهما عاقبة التكذيب، والقضاء في أمر الأمة بعد مجيء رسولها، وإبلاغها رسالته، وتحذيرها عاقبة المخالفة.
كذلك تجيء إشارة عابرة لقصة يونس الذي آمنت قريته بعد أن كاد يحل بها العذاب، فرفع عنها ونجت منه بالإيمان.. وهي لمسة من ناحية أخرى تزين الإيمان للمكذبين، لعلهم يتقون العذاب الذي ينذرون. ولا تكون عاقبتهم كعاقبة قوم نوح وقوم موسى المهلكين.
وقد انتهى الدرس الماضي بتكليف الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلن عاقبة الذين يفترون على الله الكذب وينسبون إليه شركاء: {قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون} وذلك بعد تطمين الرسول: {ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعًا} وبأن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.